تمغر بيت:
*مصطفى البختي (باحث في قضية لصحراء المغربية)
بعد تأسيس البوليساريو سنة 1973م، اعتبر فرانسيسكو فرانكو أن المغرب في وضع هش، فقرر تنظيم استفتاء في المنطقة موالي لإسبانيا، عقب إحصاء 1974م، يروم إلى إعطاء استقلال صوري لدويلتهما المصطنعة، وإعلانها تنظيم هذا الاستفتاء المشبوه لتقرير المصير في 21 غشت/آب 1974م، وكان هذا المخطط بتواطؤ الحكومة الجزائرية التي كانت تطمح إلى الوصول بحدودها الغربية إلى المحيط الأطلسي عبر هذه الدولة المزعومة.
اكتست القضية حينئذ مَظهَراً أخر وبعداً أخر تجلى فيما يلي:
- تطويق المغرب وعزله، من الشمال (إسبانيا) والشرق (الجزائر) والجنوب (دولة وهمية تحت السيطرة الجزائرية والإسبانية) والمحيط الأطلسي من الغرب.
- ضمان إسبانيا استمرار احتلال سبتة ومليلية والجزر، وضمان تأييــــــد (أو على الأقل سكوت) الحكام الجزائريين.
- ضمان الجزائر استمرار استتباع تندوف ومنطقتها، والحصول على منفذ إلى المحيط الأطلسي لتسويق معادن هذه المنطقة (خاصة حديد غارة الجبيلات).[1]
وذلـك بفصل الصحراء عن المغرب الذي فرض ضغطاً على إسبانيا في المحافل الدولية وعلى صعيد القوى الدولية المؤثرة، إلى جانب دور القـوى الوطنيـة والإعلاميـة، وكـذا الضغوط الدولية المتجلية في القضاء علـى معاقـل الاستعمـار. حيـث أن إسبانيـا لـم تكـن ترغـب في تصفية حقيقية للاستعمار؛ وهذا ما خلّف نزاعاً في المنطقة الصحراوية للمغرب، التـي تعتبـر جـزءا لا يتجـزأ مـن الحقيقة التاريخية والوطنية المغربية، وذات تفاعـل دائم مع باقي مُكونات المجتمع المغربي، كما أنها لم تعرف تاريخياً أية سلطة سياسية ودينية غير السلطة المغربية، إلى غاية الاستعمار الاسبـاني لهـا الـذي استعمـل الافتراء على التاريخ والخدع على الواقع لتثبيت تواجده بها.
ونتيجـة هـذا المخطط الاستعماري وكذا مزاعم إسبانيا المتمثلة في كونها وجدت الصحراء أرضاً خلاء لحظة احتلالها؛ اقترح المغرب اللجوء إلى تحكيم محكمة العدل الدولية، خلال الدورة 29 للجمعية العامة للأمم المتحدة في شتنبر/أيلول 1974م، وبما أن طلب التحكيم يقتضي لتقديمه موافقة الأطراف المتنازعة، لما له من بعد فلسفي وقانوني إلزامي، رفضت إسبانيا الانضمام إليه؛ تقدم المغرب بطلب رأي استشاري لمحكمة العدل الدولية حول النزاع، وفي غشت/آب 1974م، هدّد المغرب بالدخول في حرب إذا ما حاولت إسبانيا تنظيم استفتائها الميكيافيلي؛ وانضمت إلى جانبه موريتانيا بعد أن أكدت مطامحها في الصحـراء معتبـرة أن لهـا أيضـا حقوق في الصحراء، في مذكرة وجهتها إلى الأمم المتحدة في 20 غشت/آب 1974م، وأعلن وزير خارجيتها حمدي ولد مكناس أن: “الصحراء الغربية جزء لا يتجزأ من تراب الجمهورية، وأن موريتانيـا ستدافع بجميع الوسائل عن حقوقها في الصحراء”؛ بالرغم من كون موريتانيا لم ترفض مشروع إسبانيا المقترِحة لـ “قانون الاستقلال الداخلي للصحراء“، حيث اعتبر مندوبها في الأمم المتحدة بأن: “السياسة الإسبانية إيجابية جداً”، ولم يسبق لها أيضاً أن قدمت أية مطالب في الصحراء.
فتم رفع توصية إلى اللجنة الرابعة للأمم المتحدة المختصة بتصفية الاستعمار في 10 دجنبر/كانون الأول 1974م، والتي طالبت إسبانيا بتأجيل الاستفتاء إلى حين صدور قرار محكمة العدل الدولية، مما أفشل مخططها هذا؛ وبقيت هي والجزائر متشبثتان بموقف تقرير المصير دون أن تتمكنا من عرقلة أو رفض المقترح المغربي.
وفي 13 دجنبر/كانون الأول 1974م، طالبت الجمعية العامة للأمم المتحدة من محكمة العدل الدولية بـلاهاي إعطاء رأيها الاستشاري بطلب من المغرب حول الجوانب القانونية لوضع الصحراء لحظة استعمارها من طرف إسبانيا، ودعت الأطراف المعنية بتزويد محكمة لاهاي بالوثائق اللازمة؛ وإرسال لجنة أممية للمنطقة لتقصي الحقائق طبقا للقرار 3292(XXIX).
ومن هنا نقل المغرب قضية الصحراء من الحقل السياسي إلى الحقل التاريخي والقانوني؛ ولم يُمانع من انضمام موريتانيا كشريك في القضية وتدافع أمام محكمة العدل الدولية عن نفس القضية مع المغرب؛ وتتولى إدارة وادي الذهب كفاصل بينها وبين المغرب، إذا كانت ترغب في هذا الفاصـل، بـل إن هـذا الفاصـل يمكـن أن يتحـول إلـى وسيلـة للاتصال بينهمـا، وذلـك بإقامة تداخل اقتصادي وثقافي بين الدولتين في اتجاه المصلحـة المشتركـة، وهو ما رأت فيه موريتانيا أنه سيجنبها الوقوع تحت مـا تتوقعـه مـن مشاكـل لـو نجحت إسبانيا والجزائر في اقتطاع الصحراء من المغرب.[2]
وحصـل اتفـاق تاريخي بين البلدين حول القضية وهو “اتفاق نيويـورك”، الـذي غير معطياتها والخريطة السياسية في المنطقة؛ وهكذا تقدم البَلـدان بخطة موحدة أمام محكمة العدل الدولية في 25 مارس/آذار 1975م، وبوفد واحد سمي: “وفد جبهة تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب”، بعد أن انضم الوفد الموريتاني الذي كونته موريتانيا من السكان الموريتانييـن ذوي الأصل الصحراوي للمطالبة بالمنطقة كجزء منها إلى الوفد المغربي.
وفي إطار مساعدة محكمة العدل الدولية في إصدار حكمها، طلب المغرب وموريتانيا من الأمم المتحدة إرسال لجنة لتقصي الحقائق في الصحراء ومحيطها في 15/16 أبريل/نيسان 1975م؛ وعندما علمت الجزائر بذلك وجهت حكومتها إلى اللجنة نفسها لتتقصى الحقائق عندها بوصفها جارة معنية. وشكلت الأمم المتحدة اللجنة المطلوبة كٌلِفت بمهمة تقصي الحقائـق فـي الجهـات المعنيـة (المغرب، -إسبانيا، -موريتانيا، -الجزائر)، في الفترة ما بين 8 مايو/أيار و2 يونيو/حزيران 1975م، وقد بدأت بإسبانيا لتصل إلى المغرب في 23 مايو/أيار 1975م، وهو اليوم الذي أعلنت فيه اسبانيا عن عزمهـا مغـادرة الصحراء، وطالبت مساعدة الأمم المتحدة للإشراف على هـذا الإجـراء. وصادف ذلك أن أعلنت محكمة العدل الدولية عن قبولها تعيين المغرب مندوبا عنه في المحكمة، حيث مثله قاضي العدل الإيفواري ألفونس بونيAlphonse Boni . في حين بدأت “منظمة الإتحاد الوطني الصحراوي”التي تنادي بمغربية الصحراء تقوم بمناوشات عسكرية ضد القوات الإسبانية وجماعة البوليساريو التي سقطت في حضن الجزائر، وزرع فكرة الانفصال لديهـم وتبنيهـم بإشـراف عسكـري -إلـى جانـب الدعـم الإسبانـي والليبـي-، فـي تحالـف ضـد المغـرب، لمحاصرته ونهج سياسة توتر شاملة في الـمنطقـة، وتدبيـر قضيـة الـصحـراء بواسطـة أجهزتهـا الـعسكريـة والمخابراتية والدبلوماسية.
وفي يونيو/حزيران 1975م، دعت إسبانيا “الجماعة والشعب الصحراوي” للاستعـداد لتسلـم السلطة، وقامت بلقاءات في المحبس ممثلة بالجنرال سالزار Salazar، مع البوليساريو مُمَثَلة بالوالي مصطفى السيد، والجزائر في شخـص الرائـد عبدالعالي، للتنسيـق فيمـا بينهم. تلاها لقاء سري بالجزائر العاصمة في 9 شتنبر/أيلول 1975م، بين الخارجية الإسباني كورتينا إيموري Cortina Imorre، وزعيم البوليساريو الوالي مصطفى السيد، حيـث كانـت قضيـة الصحـراء محل خلاف بين الأوساط الإسبانية، خصوصـا بيـن رئيـس الحكومة أرياس نافارو Arias Navarro، من جهة، ووزير الخارجية كورتينا إيموري Cortina Imorre، ورئيس الأركـان فلسبين، من الجهة المعارضة لأية تسوية، نتيجة التحول الذي عرفه ملف القضية وإعلان المغرب في 15 يونيو/حزيران 1975م، على كون الصحراء مسألة مصيرية بالنسبة للشعب المغربي وهو مستعد لكل الاحتمالات.
وفي التقريـر الـذي وضعتـه اللجنـة الأمميـة لتقصي الحقائق، ألحت فيـه على: “ضرورة استشـارة السكان ليقودوا مستقبلهم حسب طرق قد تحـددها لجنـة أمميـة أخـرى”، وكان ذلك في 15 أكتوبر/تشرين الأول 1975م، وقد أعقبه مباشرة يوم 16 أكتوبر/تشرين الأول 1975م، قرار لمحكمة العدل الدولية تقول فيه:
“نعم ولكن!.
– نعم: الصحراء لم تكن أرضاً سائبة، هناك علاقات بيعة لبعض القبائل إزاء سلطان المغرب.
– لكن: ليست هناك علاقات سيادة ترابية قد تؤثر على تطبيق مبدأ تقرير المصير، وتعبير السكان عن إرادتهم”.
كان هذا الموقف المزدوج من طرف محكمة لاهاي منتظرا، ولذلك جاء رد فعل المغرب مباشرة بعد الإعلان عنه رسميا، فقد ألقى الملك الحسن الثاني خطابا تاريخيا أعلن فيه أن: “اعتراف محكمة العدل الدولية بوجود روابط بيعة بين ملك المغرب وأهل الصحراء يبرر تنظيم مسيرة شعبية إلى هذه الصحراء”.[3]
فمحكمة العدل الدولية التي طلب منها المغرب التحكيم في نزاع الصحراء، أقرّت بالاحتلال الإسباني للصحراء، لم تكن أثناء الاستعمار أرضا خلاء Terra nullius، ووجود روابط قانونية وشرعية/بيعة بين الصحراء والمملكة المغربية، أي روابط البيعة وإخلاص/وفاء صحراويي هذه المنطقة للسيادة المغربية.[4]
وهكذا أكدت محكمة العدل الدولية على أن: “وادي الذهب والساقية الحمراء، لم تكن وقت الاستعمار الإسباني أرضا لا مالك لها”، وأن: “المواد والمعلومات المقدّمة للمحكمة تظهِر وجود روابط ولاء قانونية وقت الاستعمار الإسباني بين سلطان المغرب وبعض القبائل التي تقطن إقليم الصحراء الغربية”. مما دفع بالحسن الثاني إلى تنظيم المسيرة الخضراء لما تمثّله الصحراء من هوية مغربية دينيا وثقافيا وإنسانيا وتقاليديا وتاريخيا، أي كينونة المغرب.
وتعتبر المسيرة الخضراء إبداعا سياسيا وعبقريا للملك الحسن الثاني، ومعلمة بارزة في تاريخ المغرب، ذلك المثال النادر لوسيلة سلمية، حققت وبدون قتال النتائج التي قد تسعى إليها حملة عسكرية مخطط لها؛ ومتفقة تماما مع ميثاق الأمم المتحدة، الذي يؤكد على فض النزاعات الدولية بالوسائل السلمية. ومن هنا تلافى المغرب مواجهة عسكرية مع إسبانيا، في خطوة رائدة في درب التحرر، وفق سلوك سلمي متحضر؛ حيث جرى التحضير لها في سرية تامة بين الملك الحسن الثاني، والكاتب العام لإدارة الدفاع الوطني الجنرال أشهبار، ومن المكتب الثالث الجنرال بناني، ومن المكتب الرابع الكولونيل ماجور الزياتي.
وكتب إدواردو سابيليي .Eduardo S، حول نجاح المسيرة الخضراء، في مقاله [ذكرياتي عن المسيرة الخضراء]: “من الانتصارات التي حققها المغرب، أنه عرف كيف يحافظ على السر، لأن ذلك أساسي من الناحية الإستراتيجية”.
في أواخر 1974م صرح هنري كيسنجر Kissinger Henry، “للصحيفة اللبنانيـة المصـور البيروتية”، أن: “الولايات المتحدة الأمريكية لن تقبل بقيـام دولـة فـي الصحـراء الغربيـة تكـون حليفـا لأعـداء أمريكـا”. وبناء على شهادات السفير المغربي السابق، في واشنطن عبد الهادي بوطالب، فـإن: المخابـرات الأمريكيـة قــد أشرفت بصورة تفصيلية على خطة “المسيـرة الخضراء” وأعطت المغرب كل التسهيلات لتنفيذها من خلال حشـد الدعـم السياسـي والمخابراتي والعسكري، غير مسبوق، نقلت المغرب إلـى مستـوى الدولـة الأولـى فـي إفريقيـا علـى قائمة الدول الحليفة التي تتلقى مساعدات عسكرية أمريكية خلال فترة إدارة الرئيس رونالد ريغان .Ronald Reagan [5]
وقبل المسيرة الخضراء في 3 نونبر/تشرين الثاني 1975م، هاجمت مجموعة مسلحـة مـن البوليساريـو مدعومـة مـن الجزائـر فرقـة عسكريـة إسبانية، إلى جانب قيام ثلاثة من عناصر البوليساريو هم: محفوظ علي بايبا، وموسـى ولد البصير، والمحجـوب ولد افريطس، بتنظيم مهرجان في العيـون يدعـون فيـه السكـان إلـى الانفصال عن المغرب، ثم تسللوا سرية إلـى مخيمـات تندوف، وذلـك مـن أجـل عرقلـة المسيرة الخضراء، وهو نفـس اليـوم الـذي وصـل فيه خوان كارلوس Juan Carlos، الذي أوكلت لـه بالنيابـة مهمـة تسييـر الحكم بإسبانيا، إلى الصحراء لرفع معنويات الجيش الإسباني.[6]
ففي تلك الفترة، أكد خوان كارلوس على أن الصحراء مغربية، وإذا وجد بلد تسلّم له فهو المغرب وليس بلد آخر.[7]
وشكّل انخراط الشعب المغربي بكافة نخبه -الرسمية والشعبية- منذ اللحظات الأولى لإعلان الملك الراحل الحسن الثاني عن عزمه تنظيم هذه المسيرة التي كان اسمها المرموز “عملية فتح” لاسترجاع أقاليمه الصحراوية، وأعطى أمر انطلاقتها الملك الحسن الثاني في 5 نونبر/تشرين الثاني 1975م، وانطلقت في اليوم الموالي (أي 6 نونبر/تشرين الثاني 1975م) وأحدثت رجة إعلامية على الصعيد العالَمي، خُصوصاً في إسبانيا، حيث شارك فيها 350 ألف نسمة من المُتطوعين من بينهم %10 نساء، ولقيت دعماً كبيراً ومؤثراً لصالح الدولة المغربية، وفي المنتديات الإقليمية والدولية -وإن اختلفت التقييمات بخصوص هذا الإعلان-، وشاركت العديد من الدول بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية في هذه المسيرة التاريخية التي أنهت الاستعمار الإسباني، حيث مثلت حدثا شعبيا برهن من خلاله الشعب المغربي عن تشبثه بمغربية الصحراء.
إن المغرب ما كان له أن ينجح في ترجيح كفته ويفلح في استرجاع أقاليمه الصحراوية الجنوبية بدون العوامل الأساسية التالية:
– عامل التعبئة الوطنية: التي فاجأت الكثيرين وذكّرتهم بمركزية القضية الوطنية في المغرب، قياسا إلى العديد من الأقطار العربية والإفريقية حديثة التكوين. والتي تجسّدت في سرعة تشكيل وتماسك الجبهة الوطنية التي شاركت فيها مختلف القوى الوطنية والتّقدمية التي كانت أطراف أساسية منها قد انعتقت لتوّها من القمع والمنع، وتجسّدت كذلك في التظاهرات الشّعبية الحاشدة التي انطلقت في مختلف جهات البلاد، وتجسّدت أيضا في تنظيم المسيرة الخضراء التي اخترقت الحدود المصطنعة في 6 نونبر/تشرين الثاني 1975م، وشكّلت تحدّيا صارخا للقوات الاستعمارية المدجّجة بالسّلاح.
– عامل الحنكة السياسية: التي غيّرت معطيات الصراع في منطقة شمال غرب إفريقيا، عندما توفّقت في تحديد الهدف الرئيسي المتمثّل في استبعاد الخطر الرئيسي ألا وهو الانفصال، واستطاعت على هذا الأساس أن تضمن وقوف موريتانيا هذا الخطر، وبذلك انتقلت هذه الأخيرة من وضعية المنافس للمغرب على الأقاليم الصحراوية إلى وضعية شريك المغرب في استرجاع تلك الأقاليم، فأربكت بذلك حسابات الإسبان، وارتبكت حسابات القيادة الجزائرية.
– عامل الاستفادة من الظرفية السياسية لإسبانيا: والتي كانت فيها النخبة السياسية الإسبانية مضغوطة أولا بالمد التحرّري الإفريقي الذي كان يعصف بالمستعمرات الإيبيرية (البرتغالية) في القارة السمراء، وثانيا مضغوطة بمتطلّبات الانتقال الديمقراطي الذي كان يقتضي من بين ما يقتضيه التّخلّص من المستعمرات (مثل ما فعلت ثورة القرنفل البرتغالية).[8]
فالصحراء لم تصبح مستقلة لأن فرانكو لم يرغب في ذلك، معتبرا إياها إسبانية، وتسليمها للمغرب لأنه لم يقدر على تجنب ذلك، (نتيجة الضغط المغربي وما أفرزته المسيرة الخضراء)[9].
فكان رد الحكومة الإسبانية يتمثل في رسالة إلى الأمم المتحدة من أنها ستسلم إدارة الصحراء لمن له “مطمح شرعي”، وتم التسليم بموجب اتفاقية مدريد الثلاثية في 14 نونبر/تشرين الثاني 1975م[10]، (والتي وقعها كارلوس أرياس نافارو عن الجانب الإسباني، وأحمد عصمان عن المغرب، وحمدي ولد مكناس عن موريتانيا)، للمغرب وموريتانيا وفي إطار من الشرعية الشعبية تمثلت في حضور أغلبية الجماعة التي هي بمثابة برلمان سكان المنطقة، بعد زيارة وزير الصحراء الإسباني آنذاك إلى المغرب، التي على إثرها تم إيقاف المسيرة في 9 نونبر/تشرين الثاني 1975م.
فاتفاقية مدريد هذه، حددت مباشرة النظام القانوني للصحراء المغربية، وكانت من هذه الناحية استمرارية لقرارات الأمم المتحدة التي كانت تدعو إسبانيا دائماً إلى إجراء مفاوضات تتعلق بتسوية مشكلة السيادة على الإقليم؛ فالأصل في نزاع الصحراء المغربية خلال هذه المرحلة هو ثنائية النزاع: مغربي-إسباني، وتسوية هذا النزاع تمر عبر قيام مفاوضات مغربية-إسبانية تنتهي بدورها إلى تسوية مشكلة السيادة.
وتفسير ذلك تعدّد الوسائل التي يمكن بواسطتها تحويل السلطات، إن هذا التحويل يتراوح بين:
- تطبيق استفتاء لتقرير المصير في حالة حصول اتفاق بين الطرفين المعنيين بالنزاع
- التحويل المباشر دون اللجوء إلى تقنيات تقرير المصير، كما تم في تسوية قضية سيدي إيفني.
لكن تأثير الجانب السياسي لمبدأ تقرير المصير، في النـــزاع المغربي-الإسباني في الصحراء، تبلـور في ما جاءت به اتفاقية مدريد حول احترام رأي سُكان الصحراء المعبر عنه من خلال الجماعة، والتي كان لإسبانيا فيها أعضاء مُوالون لها. كما أن لإسبانيا مواقف دولية خاصة، فبقي الحل الوحيد لإنقاذ “دم وجه إسبانيا”، سواء لدى الجماعة أو لدى الرأي العام الدولي، هو أن ينص في الاتفاقية على احترام رأي الجماعة، ومن جهة أخرى فإن المغرب هو الآخر قد وجد في احترام رأي الجماعة متنفسا له لدى أهل الصحراء، نظراً لوجود موريتانيا في المفاوضات.[11]
وإن الأخذ بعين الاعتبار مبدأ تقرير مصير سكان الصحراء من خلال الجماعة التي كانت بمثابة البرلمان المقرر لشؤون الصحراء بالنسبة للمستعمر، جعل الملك الحسن الثاني يعتبره قد تم انطلاقاً من الوقت الذي جاءت فيه الجماعة لتقديم البيعة، حيث في 5 نونبر/تشرين الثاني جاء “رئيس الجماعة الصحراوية”، خطري ولد سعيد الجماني لتجديد البيعة للملك الحسن الثاني. فأخذ المغرب في إرساء إدارته في الساقية الحمراء، وتسلمت موريتانيا وادي الذهب (تيرس الغربية).
وفي 19 نونبر/تشرين الثاني 1975م، وافق البرلمان الإسباني على اتفاقية مدريد وعلى المرسوم الملكي الذي أذن للحكومة الإسبانية بالتخلي عن الصحراء، والذي جاء فيه: “إن الصحراء لم تكن في يوم من الأيام تشكل جزءا من التراب الوطني للمملكة الإسبانية”. وهو اعتراف واضح من اسبانيا بأن ما كانت تدعيه من قبل ما هو إلا مجرد افتراء وتضليل. كما أعلنت رسمياً موقفها النهائي بخصوص ملف الصحراء في 26 فبراير/شباط 1976م، بأن: “اسبانيا تعتبر نفسها غير ذات صلة في المستقبل بأية مسؤولية ذات طابع دولي فيما يخص إدارة الإقليم”.
وانتهى التواجد الاستعماري في 28 فبراير/شباط 1976م، بعد جلاء آخر عسكري إسباني في 12 يناير/كانون الثاني 1976م، وتم تسجيل هذا الانسحاب في الأمم المتحدة بمقتضى التوصية 3458/76، كما صادقت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 دجنبر/كانون الأول 1975م، على نص القرار المتعلق بالصحراء، والذي أكدت فيه على استشارة سكان الصحراء حول تقرير المصير داعية الأطراف الموقعة على الاتفاق الثلاثي المبرم بمدريد في 14 نونبر/تشرين الثاني 1975م، على السهر على احترام مطامح السكان الصحراويين المعبر عنها بكل حرية.
وكان نص القرار كالآتي:
“إن الجمعية العامة تأكيدا منها لقرارها 1514 (البند 15) بتاريخ 14 دجنبر/كانون الأول 1960م، وتأكيدا لقرارها 1541 (البند 15)، ورقم 2072 (البند 20) بتاريخ 16 دجنبر/كانون الأول 1969م، وسائر القرارات الملزمة للأمم المتحدة الصادرة عنها، لاسيما قرارها رقم 3292 (البند 24) بتاريخ 13 دجنبر/كانون الأول 1974م:
بعد الاطلاع على تقرير البعثة الأممية الموفدة إلى المنطقة سنة 1975م، وبعد اطلاعها على الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية بتاريخ 16 أكتوبر/تشرين الأول 1976م. بخصوص الصحراء الغربية، واعتبارا منها لقرارات مجلس الأمن، رقم 377 بتاريخ 22 أكتوبر/تشرين الأول 1975م، ورقم 379 بتاريخ 2 نونبر/تشرين الثاني 1975م، ورقم 380 بتاريخ 6 نونبر/تشرين الثاني 1975م.
تقرّر ما يلي:
أولا: تسجيل الاتفاق الثلاثي المبرم بمدريد في 14 نونبر/تشرين الثاني 1975م، بين الحكومات: الإسبانية والمغربية والموريتانية، والذي أبلغ نصه إلى علم الأمين العام الأممي بتاريخ 18 نونبر/تشرين الثاني 1975م.
ثانيا: تؤكد من جديد الحق الثابت في تقرير مصير سائر طبقات السكان الصحراويين الذين ينتسبون للمنطقة، وذلك طبقا لقرار 1514 (البند 15) للجمعية العامة.
ثالثا: تدعو الأطراف الموقعة على اتفاق مدريد بتاريخ 14 نونبر/تشرين الثاني 1975م، إلى السهر على احترام مطامح السكان الصحراويين المعبر عنها بكل حرية.
رابعا: تدعو الإدارة المؤقتة إلى اتخاذ الإجراءات الضرورية للعمل على تمكين كل السكان الصحراويين المنتسبين للمنطقة من ممارسة حقهم في تقرير المصير بواسطة استشارة حرة منظمة بمساعدة ممثل عن الأمم المتحدة يعيّنه الأمين العام الأممي”.[12]
ونتيجة نجاح المسيرة الخضراء تغيرت معطيات النزاع، لما حققته من مكاسب على الصعيد السياسي لصالح المغرب، شكلت ضربة موجعة للبوليساريو التي قامت الجزائر إيوائها لديها في مخيمات تندوف، واستطاعت أن تحيك المؤامرات واستغلال الوضع لتوتير المنطقة وقيامها بحرب استنزافية على التراب المغربي.
لأن الجزائر كانت معارضة لاتفاقية مدريد، واعتبرتها بأنها انتقاص لقرار مجلس الأمن، وسلّمت الحكومة الجزائرية مذكرة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، معتبرة فيها -إياها- عدم اعترافها باتفاقية مدريد، معلنة أن الإطار الوحيد والمقبول لتصفية الاستعمار في الصحراء، يجب أن يكون تحت إشراف الأمم المتحدة، وعلى أساس مبدأ تقرير المصير.
كما اعتبرت الحكومة الجزائرية أن المملكة المغربية لها مطامع لإنشاء إمبراطورية كبرى، تمتد من طنجة إلى تومبوكتو وإلى سان لوي في السنيغال، كما تضم جزءا من الجزائر ومالي، إضافة إلى الصحراء -الغربية-، والجمهورية الموريتانية، حتى تصل إلى مصب نهر السنيغال[13]. وهي إدّعاءات مغرضة تضليلية مغلوطة، لتشويه الواقع والهروب إلى الأمام.
وقامت البوليساريو بضغوطات عسكرية ضد موريتانيا مدعومة من طرف المؤسسة العسكرية الجزائرية، وتأكدت على الخصوص بعد مقتل الوالي مصطفى السيد في مواجهة عسكرية غامضة على مقربة من العاصمة الموريتانية نواكشوط، التي استهدفها هجوم 8 يونيو/حزيران 1976م، على الطريق القادم من بئر مغراين، لولا تدخل الميراج الفرنسي. مواصلة الحرب بالوكالة ضد المغرب وموريتانيا، بعد أن حولت تندوف كقاعدة خلفية، التي كانت سببا في قيام مشكل الصحراء، والنزاعات الحدودية بين المغرب والجزائر، وباقي المشاكل البينية العالقة المعرقلة لبناء المغرب العربي.
وفي رد للحكومة الفرنسية، حمّلت مسؤولية الهجوم على موريتانيا وتخريب الخط السككي لمنجم الحديد الرابط بين الزويرات ونواديبو في مارس/آذار 1977م، الذي قتل فيه بعض العمال الفرنسيين واعتقل آخرون، للجزائـر؛ حيث اعتبر لويس دو غيرينغو Louis de Guiringuaud، في 3 مايو/أيار 1977م، أن هذا: “العدوان جاء من قوات خارجية، ونحن نعرف جيدا من أين جاءت، إنها جاءت من بلد جار، وقواعد البوليساريو متواجدة بهذا البلد.”
وهو ما أكدته موريتانيا في رسالة موجهة إلى مجلس الأمن الأممي في 28 أكتوبر/تشرين الأول 1977م، معتبرة فيها أن: “الجزائر مسؤولة عن العمليات الإرهابية التي تقع في الأراضي الموريتانية من طرف البوليساريو”.
ونتيجة هذا الوضع، حاولت فرنسا في نهاية السبعينات وضع مشروع سري ما سمي: “الصحراء غدا Sa-De“، إلا أنه لم ينجح. وهي خطة لتقسيم الصحراء بين كل من: المغرب والجزائر وموريتانيا، وإدماج البوليساريو في إتحاد فدرالي مع موريتانيا، بتسييره (أي البوليساريو) للجزء المحاذي للحدود (الشمالية-الشرقية) الموريتانية[14].
ففرنسا كانت ترغب في حل النزاع بتقسيم ترابي بين دول الجوار، وهو ما تم رفضه إلا أن الجزائر لم ترد عليه لا بالرفض ولا بالقبول، وهو ما يعني أنها كانت مع هذا الطرح؛ في حين صرح الرئيس الفرنسي، آنذاك، فاليري جيسكار ديستانغ Valéry Giscard d’Estaing : “أريد أن أقول في هذا الشأن، فرنسا لا تقترح نفسها للوساطة، لأنه غالبا ما تفشل الدولة التي تقترح نفسها للوساطة”[15].
وعلى إثر أول انقـلاب عسكـري بموريتانيـا ضـد مؤسسـها المختار ولد داداه في 10 يوليوز/تموز 1978م، والذي كان بتدبير جزائري لمحاصرة مكاسب المغرب مع موريتانيا، وكان هذا التورط -الجزائري-، بأمر مباشر من هواري بومدين، لإيصــال مصطفى ولد محمد ولد السالك، (رئيس اللّجنة الوطنية للإنقاذ)، إلى الحكم، وقع انقلابيو موريتانيــا في شخـص رئيسهـا الجديـد محمد خونا ولد حيدالا Mohamed khuna ould Haidalla، (وهو من قبيلـة العروسيين أحـد القبائـل الكبـرى بالصحـراء المغربيـة)، بالجزائر على اتفاقية سلمية مع البوليساريو، تحت إشراف عسكري جزائري، في 5 غشت/آب 1979م، متبنية من خلالها موريتانيا الحياد السلبي في النزاع، وتخليها عن تيرس الغربية (إقليم وادي الذهب)، لصالح البوليساريو في 10 غشت/آب 1979م، بشكل انفرادي ومخلة باتفاقية مدريد الثلاثية.
وبخصوص الانقلاب في موريتانيا قال قاصدي مرباح[16]: “إنني أنطلق من تاريخ 10 يوليوز/تموز 1978م، وهو يصادف وصول ولد السالك إلى الحكم في موريتانيا، وهو الانقلاب الذي كنا على علم به كجهاز قبل وقوعه بأسبوع.”[17]
وهذا الانهيـار الموريتانـي والانسحـاب من اتفاقية مدريد، أدى بالمغـرب إلى فقدانه لحليف كانت له أهمية مركزية في إستراتيجيته العسكـرية والدبلوماسية، بالرغم من ضعفه، ونتيجة هذا القرار المفاجئ قرر المغـرب في مجلـس للحكومة لنفس اليوم ربط الإقليم، (واد الذهب)، فوراً بالمملكة، بعد أن تأكـدت موريتانيـا بأن لا حق لهـا في وادي الذهـب معتبـرة إياه أرضـاً خـلاء لتبريـر هـذا الانسحـاب، لعدم قدرتها على إدارة هذه المنطقة؛ حيث شكل قرار انسحابها هذا تحولا دراماتيكيـا بعد الحرب التي أعلنتها عليها البوليساريو بدعم جزائري-ليبـي. فتم استرجاعها من طرف المغرب في 14 غشت/آب 1979م، لأن اتفاقية مدريد الثلاثية لـ 14 نونبر/تشرين الثاني 1975م، لا تخول لها التنازل عن وادي الذهب لجهة لا تملك أي مقوم من مقومات السيادة والشرعية وهي مجرد ورقة في يد المؤسسة العسكرية الجزائرية.
المراجع:
[1] محمد عابد الجابري، “الصحراء بين التفريط والإنقاذ: تأريخ ما لا ينبغي أن يهمله التاريخ”، إيضاءات وشهادات، سلسلة مواقف، عدد: 10، الطبعة الأولى: دجنبر 2002، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، المملكة المغربية، ص: 7.
[2] محمد عابد الجابري، مرجع سابق، ص: 27.
[3] محمد عابد الجابري، مرجع سابق، ص: 40.
[4]Hassan II: Le défi ; mémoires, Albin Michel, Op Cit. p: 174.
[5] الحرباطي فرج ناصر، “صراع الصحراء الغربية ينتهي بالاستفتاء“، مجلة الأنباء الكويتية، الكويت، 03 يناير 2011، ص 28،
[6] نوافذ، عدد: 15، مرجع سابق، ص: 29.
[7]Hassan II: La memoria de un Rey, Entrevistas con Eric Laurent, Traduccion: Manuel Serrat Crespo, Ediciones: B, 1994, Barcelona, España. p: 286.
[8]العربي مفضال، “استرجاع الأقاليم الصحراوية وضرورة تجاوز الأسئلة العتيقة”، نوافذ، عدد مزدوج: 10/11، مرجع سابق، ص: 156.
[9]Carlos Ruiz Miguel, Op.Cit, p.215:
[10] أنظر نص معاهدة مدريد الثلاثية لـ 14 نونبر 1975م، في الملاحق.
[11] عبد الحق ذهبي، مرجع سابق، ص: 87.
[12]نص القرار المتعلق بالصحراء المسجّل بمقتضى التوصية 3458/76، الذي صادقت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 دجنبر/كانون الأول 1975م، أورده: أبو العز محمد بوريالة، مرجع سابق، ص: 100.
[13] …“مشكلة الصحراء الغربية”. www.moqatel.com, accessed: 01/04/2015.
[14]Le Monde, 1-2 Octoubre 1978.
[15]Le Monde, 17 Février 1979.
[16] قاصدي مرباح اسمه الحقيقي عبد الله خالف رئيس جهاز الأمن العسكري الجزائري في عهد هواري بومدين، كما شغل عدة مناصب حكومية سابقاً، ثم أسس حزب “الحركة الجزائرية من أجل العدالة والتنمية” سنة 1989م. أنظر: محمد سمراوي، “الإسلاميون والعسكر: سنوات الدم في الجزائر”، ترجمة: عومرية سلطاني، طبعة: 2015، تنوير للنشر والإعلام، القاهرة، جمهورية مصر العربية، ص: 42.
[17] “قاصدي مرباح يفتح ملف موت بومدين”، الشعب الجزائرية، 28 دجنبر 1990.