تمغربيت:
محمد زاوي*
تقديم:
ليس التراث السني مسألة فرد فحسب، بل مسألة دولة بالأساس. إذن، يصبح الحفاظ عليه مهمة من مهام جهاز الدولة، كما يصبح جزءا من إيديولوجيتها. وفي الدولة المغربية الحديثة، حيث المزج بين التقليد والتحديث، يكون التراث السني جزءا من الأول، خاضعا لقواعد الثاني متسربا عبر قنواته.
ولما كان “صحيح البخاري” جزءا من التراث السني، سرى عليه ما سرى على الأخير، من وجهين:
– رمزا: إذ تحول الكتاب، ولو أن موطأ الإمام مالك سابق عليه، إلى رمز للسنة، فيه يتكثف ارتباط المغاربة بها.
– ومتنا: لما فيه من نصوص تبنى عليها الأحكام، هذه التي تتدخل أو تستدعى لشؤون الدولة والمجتمع.
عناية المغاربة بصحيح البخاري:
اعتنى المغاربة ب”صحيح البخاري”، لا فرق في العناية به بين خاصتهم وعامتهم، إلا من حيث نوع العناية. كان الخاصة آمرين، بالسلطتين: المادية والإيديولوجية، وكان العامة للأمر خاضعين. ولا ضير في ذلك، بل هو المطلوب، وإلا لمَا بقيت دولة.
والعلويون أصحاب أمر، ساسوا الدولة المغربية، قرابة أربعة قرون. وكانت لهم بالدين عناية، وبسنته خاصة. ولعل من أبرز ما أولوه عناية كبيرة “صحيح البخاري”. اسنتبطوا منه أحكام الدين والدنيا، وحفظوه بأنفسهم ومحدثيهم، ونظّموا مجالس لسرده وشرحه، وجعلوه جزءا من احتفالاتهم الدينية، بل وجعلوه رمزا لاجتماعهم ووحدتهم وتعاقدهم على حماية حمى الدولة المغربية… الخ.
مظاهر عماية الأسرة العلوية ب “صحيح البخاري”:
ومن أبرز مظاهر ذلك، في تاريخ الدولة العلوية، نذكر الآتي:
– في أول عهد العلويين: كانت ل”صحيح البخاري” نسخة مخصوصة.
– في عهد السلطان المولى إسماعيل: جمع السلطان، بمعية فقهائه، الجنود العبيد، بعد أن أصبحوا ملكا للدولة لا لأي جهة أخرى، فجعل بينه وبينهم “صحيح البخاري”، قائلا: “فكل ما أمر به (أي “الصحيح”) نفعله وكل ما نهى عنه نتركه وعليه نقاتل”، وذلك مصدر تسميتهم “جيش عبيد البخاري”. (المرجع: “مختصر الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى”، لأحمد بن خالد الناصري، اختصره عبد الصمد بلكبير، الجزء الثالث، منشورات الملتقى، 2021)
– الأميرة خانتة بنت بكار (زوجة المولى إسماعيل): أميرة علوية، كانت عالمة تعلق على شرح “الصحيح” المسمى “فتح الباري” (شرح ابن حجر العسقلاني على “صحيح البخاري”).
– وعلى عهد السلطان المولى محمد بن عبد الله: جعل السلطان “الصحيح” مقرّرا في برنامجٍ وضعه لدراسة الحديث.
- أما في عهد السلطان المولى محمد بن عبد الرحمان: استدعى السلطان ل”الصحيح” من يسرده من العلماء في ثلاثة أشهر (رجب وشعبان ورمضان).
– في عهد الملك الحسن الثاني: أسس الملك الدروس الحسنية، والتي كثيرا ما كانت تجعل من مرويات “البخاري” في “الجامع الصحيح” موضوعا لها.
… الخ.
(المرجع: محمد عز الدين المعيار الإدريسي، درس “عناية ملوك المغرب بالحديث النبوي الشريف”، سلسلة “الدروس الحديثية البيانية”، إذاعة محمد السادس للقرآن الكريم)
عهد أمير المؤمنين محمد السادس: على نهج السلف
وفي عهد الملك محمد السادس: بالإضافة إلى استمرار الدروس الحسنية وما تبنى عليه من أحاديث صحيحة، يتم ختم “صحيح البخاري”، بين يدي أمير المؤمنين، الملك محمد السادس، بمناسبة ليلة القدر.
ليس “الصحيح” مسألة دين محض، مسألة إجابة على سؤال غيبي وجودي فحسب؛ إنها مسألة دين في علاقته بسياسة الدولة المغربية، على النقيض من سياسة أو سياسات خصومها ومن يتربص بها الدوائر، من باب التدين.
الذين يُعمِلون ملَكاتهم النقدية، أنثروبولوجيا وسيكولوجيا وتاريخيا، في الأديان وإعادة إنتاجها إيديولوجياتٍ دينية، من غير اعتبار للسياسي؛ على هؤلاء -ومنهم أصحاب “صحيح البخاري: نهاية أسطورة”!!- أن يراجعوا أوراقهم. “البخاري” موجود، ما دامت الحاجة إليه قائمة. أنتجته السلطة، رواية وتدوينا. وتعيد إنتاجه السلطة، تحقيقا وتأويلا.
“البخاري”، بميزان السلطة، من “الحدود الثقافية” للدولة (ورد مصطلح “الحدود الثقافية” في مقدمة كتاب “المعارضات الفكرية المعاصرة لأحاديث الصحيحين”، من ثلاثة أجزاء، لمحمد زريوح). وكما تحمي السلطة حدودها الترابية، تحرص على حماية حدودها الثقافية. فكلما اضطربت الوحدة الثقافية، إلا وأصبح الاختراق عابرا للحدود الجغرافية.
ولا يعمل الاستعمار بمحض قدرته في الأوطان، فلا بد له من حاضنة تقبله. إذن، بتعبير مالك بن نبي في “شروط النهضة”، هناك “استعمار” و”قابلية للاستعمار”. وشئنا أم أبينا، فإن “الصحيح” بالنسبة للمغاربة معامل يشتغل على النقيض من “القابلية للاستعمار”. وليس شرطا، في ذلك، أن يحفظه المغاربة أو يفهموه. رمزيته كافية، وكم كانت الرموز مصدر إلهام للشعوب!